الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ جَاءَ عَلَى الِالْتِفَاتِ عَنْ وَصْفِ الْخَالِقِ تَعَالَى بِمَا دَلَّ عَلَى حَمْدِهِ وَتَوْحِيدِهِ إِلَى خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَدَلُوا بِهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ، يُذَكِّرُهُمْ بِهِ بِمَا هُوَ أَلْصَقُ بِهِمْ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ، وَهُوَ خَلْقُهُمْ مِنَ الطِّينِ، وَهُوَ التُّرَابُ الَّذِي يُخَالِطُهُ الْمَاءُ فَيَكُونُ كَالْعَجِينِ وَقَدْ خَلَقَ اللهُ آدَمَ أَبَا الْبَشَرِ مِنَ الطِّينِ كَمَا خَلَقَ أُصُولَ سَائِرِ الْأَحْيَاءِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ إِذْ كَانَتْ حَالَتُهَا مُنَاسِبَةً لِحُدُوثِ التَّوَلُّدِ الذَّاتِيِّ، بَلْ خَلَقَ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْبَشَرِ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ فَبِنْيَةُ الْإِنْسَانِ مُكَوَّنَةٌ مِنَ الْغِذَاءِ، وَمِنْهُ مَا فِي رَحِمِ الْأُنْثَى مِنْ جَرَاثِيمِ النَّسْلِ وَمَا يُلَقِّحُهُ مِنْ مَاءِ الذَّكَرِ، فَهُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الدَّمِ، وَالدَّمُ مِنَ الْغِذَاءِ، وَالْغِذَاءُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ أَوْ مِنْ لُحُومِ الْحَيَوَانِ الْمُتَوَلِّدِ مِنَ الْأَرْضِ، فَمَرْجِعُ كُلٍّ إِلَى النَّبَاتِ مِنَ الطِّينِ، وَمَنْ تَفَكَّرَ فِي هَذَا ظَهَرَ لَهُ ظُهُورًا جَلِيًّا أَنَّ الْقَادِرَ عَلَيْهِ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يُعِيدَ هَذَا الْخَلْقَ كَمَا بَدَأَهُ، إِذَا هُوَ أَمَاتَ هَذِهِ الْأَحْيَاءَ بَعْدَ انْقِضَاءِ آجَالِهَا الَّتِي قَضَاهَا لَهَا فِي أَجَلٍ آخَرَ يَضْرِبُهُ لِهَذِهِ الْإِعَادَةِ بِحَسَبِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ.وَالْأَجَلُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمُدَّةُ الْمَضْرُوبَةُ لِلشَّيْءِ، أَيِ الْمِقْدَارُ الْمَحْدُودُ مِنَ الزَّمَانِ، وَقَضَاءُ الْأَجَلِ يُطْلَقُ عَلَى الْحُكْمِ بِهِ وَضَرْبِهِ لِلشَّيْءِ وَعَلَى الْقِيَامِ بِالشَّيْءِ وَفِعْلِهِ، إِذْ أَصْلُ الْقَضَاءِ: فَصْلُ الْأَمْرِ قَوْلًا كَانَ ذَلِكَ أَوْ فِعْلًا كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ مِثَالُ الْأَوَّلِ: أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَى أَجَلًا لِخِدْمَةِ مُوسَى لَهُ ثَمَانِيَ سِنِينَ وَأَجَلًا آخَرَ اخْتِيَارِيًّا سَنَتَيْنِ، فَهَذَا قَضَاءٌ قَوْلِيٌّ، وَقَدْ قَضَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْأَجَلَ الْمَضْرُوبَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [28: 29] الْآيَةَ وَذَلِكَ قَضَاءٌ فِعْلِيٌّ. وَالْقَضَاءُ قَدْ يَكُونُ نَفْسِيًّا، كَأَنْ يَضْرِبَ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ أَجَلًا لِعَمَلٍ يَعْمَلُهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي نَهَارٍ أَوْ سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ، وَيُعَدُّ هَذَا مِنَ الْقَضَاءِ الْقَوْلِيِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُتَعَلِّقِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ وَقَدْ يَقْضِيهِ وَيُفَصِّلُ فِيهِ كِتَابَةً، فَالْقَضَاءُ الْقَوْلِيُّ يَشْمَلُ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ وَمَا هُوَ مُظْهِرٌ لَهُ مِنْ لَفْظٍ أَوْ كِتَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.وَقَدْ أَخْبَرَنَا عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَضَى لِعِبَادِهِ أَجَلَيْنِ أَجَلًا لِمُدَّةِ حَيَاةِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ يَنْتَهِي بِمَوْتِ ذَلِكَ الْفَرْدِ وَأَجَلًا لِإِعَادَتِهِمْ وَبَعْثِهِمْ بَعْدَ مَوْتِ الْجَمِيعِ وَانْقِضَاءِ عُمُرِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْأَجَلَ الْآخَرَ هُوَ أَجْلُ حَيَاةِ مَجْمُوعِهِمُ الَّذِي يَنْقَضِي بِقِيَامِ السَّاعَةِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْأَجَلَيْنِ مَا نَصَّهُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} يَعْنِي الْمَوْتَ {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} يَعْنِي الْآخِرَةَ. (وَعَزَاهُ أَيْضًا إِلَى عَشَرَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ) وَقَوْلُ الْحَسَنِ فِي رِوَايَةِ عَنْهُ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} وَهُوَ مَا بَيْنَ أَنْ يُخْلَقَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} وَهُوَ مَا بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ إِلَى أَنْ يُبْعَثَ هُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ تَقْدِيرُ الْأَجَلِ الْخَاصِّ وَهُوَ عُمُرُ كُلِّ إِنْسَانٍ. وَتَقْدِيرُ الْأَجَلِ الْعَامِّ وَهُوَ عُمُرُ الدُّنْيَا بِكَمَالِهَا ثُمَّ انْتِهَاؤُهَا وَقَضَاؤُهَا وَزَوَالُهَا وَالْمَصِيرُ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} يَعْنِي مُدَّةَ الدُّنْيَا {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} يَعْنِي عُمُرَ الْإِنْسَانِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ. وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [6: 60] الْآيَةَ وَقَالَ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} يَعْنِي النَّوْمَ يَقْبِضُ اللهُ فِيهِ الرَّوْحَ ثُمَّ يُرْجِعُ أَيِ الرُّوحَ إِلَى صَاحِبِهِ عِنْدَ الْيَقَظَةِ {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} يَعْنِي أَجَلَ مَوْتِ الْإِنْسَانِ. وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ. انْتَهَى مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي اسْتَغْرَبَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [39: 42] وَلَكِنَّ الْأَجَلَ الْمُسَمَّى هُنَا هُوَ الْمَوْتُ وَلَمْ يُسَمِّ التَّوَفِّي الْأَوَّلَ وَهُوَ النَّوْمُ أَجَلًا، عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ اسْتَدَلَّ عَلَى الْبَعْثِ بِالنَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ الْآتِيَةِ وَآيَةِ الزُّمَرِ وَغَيْرِهِمَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [27: 86].هَذَا وَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ ذِكْرَ الْأَجَلِ الْمُسَمَّى فِي الْقُرْآنِ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ النَّاسِ يَرَاهُ قَدْ وَرَدَ فِي عُمُرِ الْإِنْسَانِ الَّذِي يَنْتَهِي بِالْمَوْتِ فَرَاجِعْ فِي ذَلِكَ سُورَةَ هُودٍ (11: 3) وَالنَّحْلِ (16: 61) وَطَهَ (20: 129) وَالْعَنْكَبُوتِ (29: 53) وَفَاطِرٍ (35: 45) وَالزَّمَرِ (39: 42) وَغَافِرٍ (40: 67) وَنُوحٍ (71: 4) وَقَدْ ذُكِرَ بَعْضُهَا آنِفًا فَإِذَا عُدَّ هَذَا مُرَجِّحًا يَتَّسِعُ مَجَالُ تَأْوِيلِ الْأَجَلِ الْأَوَّلِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُوصَفْ بِالْمُسَمَّى، فَيُحْتَمَلُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ النَّوْمُ وَغَيْرُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي قَالَهَا مُفَسِّرُو الْخَلْفِ وَمِنْهَا مَا عَزَاهُ الرَّازِيُّ إِلَى حُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَجَلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْآجَالُ الطَّبِيعِيَّةُ وَالثَّانِي الْآجَالُ الِاخْتِرَامِيَّةُ. أَمَّا الْآجَالُ الطَّبِيعِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي لَوْ بَقِيَ ذَلِكَ الْمِزَاجُ مَصُونًا مِنَ الْعَوَارِضِ الْخَارِجِيَّةِ لَانْتَهَتْ مُدَّةُ بَقَائِهِ إِلَى الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ، وَأَمَّا الْآجَالُ الِاخْتِرَامِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي تَحْصُلُ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْعَارِضَةِ كَالْغَرَقِ وَالْحَرْقِ وَلَدْغِ الْحَشَرَاتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْضِلَةِ انْتَهَى. وَمِنْهَا أَنَّهُ مَا انْقَضَى مِنْ عُمُرِ كُلِّ أَحَدٍ. وَمِنْهَا قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ: إِنَّهُ مَا انْقَضَى مِنْ آجَالِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. وَالْمُسَمَّى عِنْدَهُ أَجْلُ مَنْ يَأْتِي مِنَ الْأُمَمِ لِأَنَّهُ لَا يَزَالُ غَيْبًا.وَمَعْنَى {مُسَمًّى} عِنْدَهُ أَيْ لَا يَعْلَمُهُ، غَيْرُهُ كَذَا قَالُوا. وَهَذَا إِنَّمَا يَظْهَرُ إِذَا أُرِيدَ بِهَذَا الْأَجَلِ السَّاعَةُ أَيِ الْقِيَامَةُ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهَا مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا. وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَوْتُ فَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَوْنِهِ مُسَمًّى عِنْدَهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَ بِهِ مَقَادِيرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَفِيمَا يَكْتُبُهُ الْمَلَكُ عِنْدَمَا يَنْفُخُ الرُّوحَ فِي الْجَنِينِ، كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: «وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: يَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشِقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ» فَمَعْنَى الْعِنْدِيَّةِ إِذًا اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُنَا، فَهِيَ عِنْدِيَّةُ تَشْرِيفٍ وَخُصُوصِيَّةٍ وَهَذِهِ الْكِتَابَةُ كَالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ بِالشَّيْءِ لَا تَقْتَضِي الْجَبْرَ وَلَا سَلْبَ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} هُوَ كَقَوْلِهِ قَبْلَهُ: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} فِي دَلَالَتِهِ عَلَى اسْتِبْعَادِ الِامْتِرَاءِ وَهُوَ الشَّكُّ فِي الْبَعْثِ مِنَ الْإِلَهِ الْقَدِيرِ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَقَدَّرَ آجَالَكُمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ دَلَالَةً لَا تُبْقِي لِاسْتِبْعَادِ الْبَعْثِ وَجْهًا، فَإِذَا كَانَ سَبَبُ الِاسْتِبْعَادِ عَدَمَ رُؤْيَةِ مِثَالٍ لِهَذَا الْبَعْثِ وَهُوَ الْوَاقِعُ فَمَثَلُهُ أَنَّكُمْ لَا تَرَوْنَ مَثَلًا لِخَلْقِ أَصْلِكُمْ وَجَدِّكُمُ الْأَوَّلِ مِنْ تُرَابٍ، وَلَا لِخَلْقِ غَيْرِكُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ؛ فَإِنَّ التَّوَلُّدَ الذَّاتِيَّ لَا يَقَعُ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ، خِلَافًا لِمَا كَانَ يَتَوَهَّمُهُ عُلَمَاءُ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ فِي تَوَلُّدِ دُودِ الْفَاكِهَةِ وَالْجُبْنِ وَالْفِيرَانِ.{وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} اسْمُ الْجَلَالَةِ {اللهُ} عَلَمٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا مَعْرُوفًا عِنْدَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ. قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [29: 61] وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: (39: 38) وَفِي مَعْنَى هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ رَاجِعْ مِنْ آيَةِ 80 إِلَى 90 مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ وَآيَةِ 60 وَمَا بَعْدَهَا مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ. فَمِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَعْلَمُ أَنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ يَشْمَلُ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَوْ يَسْتَلْزِمُهَا، فَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ اللهُ الْمُتَّصِفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَعْرُوفَةِ الْمُعْتَرَفِ لَهُ بِهَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، كَمَا تَقُولُ: إِنَّ حَاتِمًا هُوَ حَاتِمُ فِي طَيٍّ وَفِي جَمِيعِ الْقَبَائِلِ أَيْ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْجُودِ الْمُعْتَرَفِ لَهُ بِهِ فِي كُلِّ قَوْمِهِ وَفِي غَيْرِهِمْ، وَأَنَّ فُلَانًا هُوَ الْخَلِيفَةُ فِي مَمْلَكَتِهِ وَفِي جَمِيعِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَفِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ الزُّخْرُفِ {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [43: 84] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْمَعْنَى الِاشْتِقَاقِيَّ فِي الِاسْمِ الْكَرِيمِ إِمَّا الْمَعْبُودَ وَإِمَّا الْمَدْعُوَّ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْإِلَهِ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: كَمَعْنَى آيَةِ الزُّخْرُفِ أَيْ وَهُوَ الْمَعْبُودُ أَوِ الْمَدْعُوُّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّهُ الْأَصَحُّ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَفِي الْآيَاتِ وُجُوهٌ أُخْرَى: فَمِنْهَا أَنَّهُ الْمَعْرُوفُ بِالْإِلَهِيَّةِ أَوِ الْمُتَوَحِّدُ بِالْإِلَهِيَّةِ فِيهِمَا وَمِنْهَا أَنَّهُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ اللهُ فِيهِمَا لَا يُشْرَكُ بِهِ فِي هَذَا الِاسْمِ وَقِيلَ: إِنَّ {فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ نَحْوِيٌّ وَإِشْكَالٌ مَعْنَوِيٌّ.وَزَعَمَتِ الْجَهْمِيَّةُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَائِنٌ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمِنْهُ أَخَذُوا قَوْلَهُمْ. إِنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَاللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِمَّا قَالُوا، فَهُوَ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ غَيْرُ حَالٍّ فِيهِ كُلِّهِ وَلَا فِي جُزْءٍ مِنْهُ، وَمَا صَحَّ مِنْ إِطْلَاقِ كَوْنِهِ فِي السَّمَاءِ لَيْسَ مَعْنَاهُ إِنَّهُ حَالٌّ فِي هَذِهِ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ إِطْلَاقٌ لِإِثْبَاتِ عُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ غَيْرَ مُشَابِهٍ لَهُمْ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ بَائِنٌ مِنْهُمْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.وَأَمَّا جُمْلَةُ {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} فَهِيَ تَقْرِيرٌ لِمَعْنَى الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الَّذِي اسْتَوَى فِي عِلْمِهِ السِّرُّ وَالْعَلَانِيَةُ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ بِمَعْنَى: هُوَ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ، قِيلَ: أَوْ ثَالِثٌ {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ. اهـ.
|